فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأمّا جمهورُ أهل السنّة، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري، فعمّموا وقالوا: لا يثبت شيء من الواجبات، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلاّ ببعثة الرسل حتّى معرفة الله تعالى، واستدلّوا بهذه الآية وغيرها: مثل {وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15] وبالإجماع.
وفي دعوى الإجماع نظر، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر، وفي الاستدلال بالآيات، وهي ظواهر، على أصل من أصول الدين نظر ثالث، إلاّ أن يقال: إنَّها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع، وهذا أيضًا مجال للنظر، وهم ملجَئُون إلى تأويل هذه الآية، لأنّهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله.
والجواب أن يقال: إنّ الرسل في الآية كلٌّ إفْرادِي، صادق بالرسول الواحد، وهو يختلف باختلاف الدعوة.
فأمّا الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فَقد تقرّرت بالرسل الأوّلين، الّذين تقرّر من دعواتهم عند البشر وجوبُ الإيمان والتوحيد، وأمّا الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع، فهي تتقرّر بمجيء الرسل الذين يختصّون بأمم معروفة.
وأمّا المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول؛ فقالوا: إنّ العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام، وحرمة كثير، لاسيما معرفة الله تعالى، لأنّ المعرفة دافعة للضرّ المظنون، وهو الضرّ الأخروي، من لحاق العذاب في الآخرة، حيث أخبر عنه جمع كثير، وخوف ما يترتَّب على اختلاف الفِرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات، وهو ضرّ دنيويّ، وكلّ ما يدفع الضرّ المظنونَ أو المشكوك واجب عقلًا، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأنّ فيه سَبُعًا، فإنّ العقل يقتضي أن يتوقّف ويبحث حتّى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدّي إلى ثبوت الشرائع.
فلذلك تأوّلوا هذه الآية بما ذكره في الكشاف إذ قال: فإن قلت: كيف يكون للنّاس على الله حجّة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلّة التي النظر فيها موصّل إلى المعرفة، والرسلُ في أنفسهم لم يتوصّلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلّة، أي قبل الرسالة.
قلت: الرسل منبِّهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حمّلوه من أمور الدّين وتعليم الشرائع؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلّة وتتميمًا لإلزام الحجّة.
يعني أنّ بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلًا، فبعثة الرسل إتمام للحجّة في أصل المؤاخذة، وإتمام للحجّة في زيادة التزكية أن يقول النّاس: ربّنا لِمَ لَمْ ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصدّيقين وقصرتنا على مجرّد النجاة من العذاب، حين اهتدينا لأصل التّوحيد بعقولنا.
وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصّة لأنّه رآه مبنَى أصول الدّين، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في التوضيح أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إنْ توقّف على الشرع يلزم الدور وصرّح أيضًا بأنَّها تعرف بالشرع أيضًا.
وقد ضايق المعتزلةُ الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا: لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحامُ الرسل، فلم تكن للبعثة فائدة.
ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد: انظرْ في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك، فله أن يقول: لا أنظر ما لم يجب عليّ، لأنّ ترك غير الواجب جائز، ولا يجب عليّ حتّى يثبتَ عندي الوجوب بالشرع، ولا يثبت الشرع ما دمتُ لم أنظر، لأنّ ثبوت الشرع نَظَريّ لا ضروري.
وظَاهَرَهم الماتريديّةُ وبعضُ الشافعيّة على هذا الاستدلال.
ولم أر للأشاعرة جوابًا مقنعًا، سوى أنّ إمام الحرمين في الإرشاد أجاب: بأنّ هذا مشترك الإلزام لأنّ وجوب التأمّل في المعجزة نظري لا ضروريّ لا محالة، فلمن دعاه الرسول أن يقول: لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك عليّ عقلًا، ولا يجب عليّ عقلًا ما لم أنظر، لأنّه وجوب نظري، والنّظري يحتاج إلى ترتيب مقدّمات، فأنا لا أرتّبها.
وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلّمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتازاني.
وقال ابن عرفة في [الشامل]: إنّه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعمّمها بيننا وبينهم، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة ردٌّ متمكّن.
والظاهر أنّ مراد إمام الحرمين أن يُسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحّض الاستدلال بالأدلة الشرعيّة وهو مطلوبنا.
وأنَا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين:
أولهما: بالمنع، وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقّفًا على الإصغاء إليه، والنظر في معجزته، وأنّه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول، بل ندّعي أنّ ذلك أمر ثبت بالشرائع الّتي تعاقب ورودها بين البشر، بحيث قد علم كلّ مَن له علاقة بالمدنيَّة البشرية بأنّ دُعاة أتَوا إلى النّاس في عصور مختلفة، ودعوتهم واحدة: كلّ يقول إنّه مبعوث من عند الله ليدعو النّاس إلى ما يريده الله منهم، فاستقرّ في نفوس البشر كلّهم أنّ هنالك إيمانًا وكفرًا، ونجاة وارتباقًا، استقرارًا لا يجدون في نفوسهم سبيلًا إلى دفعه، فإذا دعا الرسول النّاس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعوّ السامععِ تلك الأخبار الماضية والمحاورات، فوجب عليه وجوبًا اضطراريًا استماعُه والنظرُ في الأمر المقرّر في نفوس البشر، ولذلك آخذَ الله أهل الفترة بالإشراك كما دلّت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنّة.
ولذلك فلو قَدّرْنا أحدًا لم يخالط جماعات البشر، ولم يسبق له شعور بأنّ النّاس آمنوا وكفروا وأثبتوا وعطّلوا، لَما وجب عليه الإصغاء إلى الرسول لأنّ ذلك الانسياق الضروري مفقود عنده.
وعلى هذا الوجه يكون الوجوب غير شرعي، ولا عقلي نظري، بل هو من الأمور الضرورية التي لا يستطاع دفعها فلا عجب أن تقع المؤاخذة بتعمّد مخالفتها.
وثاني الجوابين: بالتسليم، غير أنّ ما وقِر في جبلّة البشر من استطلاع الحوادث والأخبار الجديدة، والإصغاء لكلّ صاحب دعوة، أمر يحمل كلّ من دعاه الرسول إلى الدين على أن يستمع لكلامه، ويتلقّى دعوته وتحدّيهُ ومعجزته، فلا يشعر إلاّ وقد سلكت دعوته إلى نفس المدعوِّ، فحرّكت فيه داعية النظر، فهو ينجَذب إلى تلقّي الدعوة، رويدًا رويدًا، حتّى يجد نفسه قد وعاها وَعَلِمها علمًا لا يستطيع بعدَه أن يقول: إنّي لا أنظر المعجزة، أو لا أصغي إلى الدعوة.
فإن هو أعرض بعد ذلك فقد اختار العمى على الهدى، فكان مؤاخذًا، فلو قدّرنا أحدًا مَرّ برسول يدعو فشغله شاغل عن تعرّف أمره والإصغاء لكلامه والنظر في أعماله، لسلّمنا أنّه لا يكون مخاطبًا، وأنّ هذا الواحد وأمثاله إذا أفحَم الرسولَ لا تتعطّل الرسالة، ولكنّه خسر هديه، وسَفِه نفسه.
ولا يَرِد علينا أنّ من سمع دعوة الرسول فجعل أصابعه في أذنيه وأعرض هاربًا حينئذٍ، لا يتوجّه إليه وجوبُ المعرفة، لأنّ هذا ما صنع صنعه إلاّ بعد أن علم أنّه قد تهيَّأ لتوجّه المؤاخذة عليه إذا سمع فعصى، وكفى بهذا شعورًا منه بتوجّه التكليف إليه فيكون مؤاخذًا على استحبابِه العمى على الهدى، كما قال تعالى في قوم نوح: {وإنّي كلَّما دعوتُهم أي إلى الإيمان لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشَوْا ثيابهم} [نوح: 7].
والإظهار في مقام الإضمار في قوله: {بعدَ الرسل} دون أن يقال: بعدَهم، للاهتمام بهذه القضيّة واستقلالها في الدلالة على معناها حتّى تسير مسرى الأمثال.
ومناسبة التذييل بالوصفين في قوله: {عزيزًا حكيمًا}: أمّا بوصف الحكيم فظاهرة، لأنّ هذه الأخبار كلّها دليلُ حكمته تعالى، وأمّا بوصف العزيز فلأنّ العزيز يناسب عزّتَه أن يكون غالبًا من كلّ طريق فهو غالب من طريق المعبوديّة، لا يُسأل عما يفعل، وغالب من طريق المعقولِيّة إذ شاء أن لا يؤاخذ عبيده إلاّ بعد الأدلّة والبراهين والآيات.
وتأخيرُ وصف الحكيم لأنّ إجراء عزّته على هذا التمام هو أيضًا من ضروب الحكمة الباهرة. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}
نعرف أن البشارة تكون بأمر سار يأتي من بعد. والنذارة هي إخبار بأمر مسيء يأتي من بعد. والعزيز سبحانه لا يُغلب. والحكيم سبحانه وضع كل شيء في موضعه، لماذا؟. لأن الرسل يبشرون وينذرون بأن هناك جنة ونارًا وحسابًا، فإياكم أن تظنوا أن الذي كفر بقادر على أن يصنع شيئًا لنفسه؛ والله عزيز وغنيُّ عن خلقه جميعًا.
ونعلم أن الحق لا يجرم سلوكًا إلا بنص، وقبل أن يعاقب فهو يضع القواعد التي لا يصح الخروج عنها. وحين يقول الحق: {وَكَانَ الله عَزِيزًا حَكِيمًا} فعزته وحكمته هي التي أتاحت لنا أن نعرف منهجه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}
أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين».
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والحكيم الترمذي عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شخص أحب إليه العذر من الله ولذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدح من الله ولذلك وعد الجنة».
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} فيقولوا: ما أرسلتَ إلينا رسولًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ}: فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه بدل من رُسُلًا الأول في قراءة الجمهور، وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بنصبه على التكْريرِ، كذا فهم عنه أبو حيان.
الثاني: أنه منصوبٌ على الحال الموطِّئة؛ كقولك: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلًا صَالِحًا، ومعنى الموطِّئة، أي: أنَّها ليست مقصودةً، إنما المقصودُ صفتُها؛ ألا ترى أن الرجوليَّة مفهومة من قولك بِزَيْدٍ، وإنما المقصودُ وصفه بالصلاحية.
الثالث: أنه نُصِبَ بإضمار فعل، أي: أرْسَلْنا رُسُلًا.
الرابع: أنه منصوبٌ على المَدْح، قدَّره أبو البقاء بأعني، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلًا دالًا على المدْح، نحو: أمْدَح، وقد رجَّح الزمخشريُّ هذا الأخير، فقال: والأوجَهُ أن ينتصِبَ رُسُلًا على المدح.
قوله: {لِئَلاَّ} هذه لام كَيْ، وتتعلَّقُ بـ {مُنْذِرِينَ} على المختار عند البصريِّين، وب {مُبَشِّرِينَ} على المختار عند الكوفيِّين؛ فإن المسألةَ من التنازُع، ولو كان من إعمالِ الأول، لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ، فكان يُقال: مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ [له] لئلا، ولم يَقُل كذلك، فدلَّ على مذهب البصريِّين، وله في القرآن نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة، وقيل: اللامُ تتعلَّقُ بمحذوف، أي: أرسلْنَاهُم لذلك، و{حُجَّةٌ} اسمُ كانَ، وفي الخبر وجهان:
أحدهما: هو {عَلَى الله} و{لِلنَّاسِ} حال.
والثاني: أن الخبر {للنَّاسِ} و{عَلَى الله} حال، ويجوز أن يتعلَّق كُلٌّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّق به الآخرُ، إذا جعلناه خبرًا، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ على الله بـ {حُجَّة}، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ معمول المصدر لا يتقدم عليه، و{بَعْدَ الرُّسُلِ} متعلقٌ بـ {حُجَّة}، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ لـ {حُجَّة}؛ لأنَّ ظروف الزمان تُوصفُ بها الأحداثُ؛ كما يخْبر بها عنها؛ نحو: القِتَالُ يَوْمُ الجُمُعَةِ. اهـ.